الاقتصاد الإسلامي-  دخل ومنهاج

الحلقة الثالثة

الاقتصاد الإسلامي-  دخل ومنهاج

بقلم: الأستاذ الدكتور عيسى عبده

في دراسة المادية الاقتصادية، بأوسع ما تدل عليه هذه العبارة، يرى الباحث أن مدارس الفكر الاقتصادي، وبعض رجال هذه المدارس، يحتمل مراكز بالغة الأهمية في الأدوار التي مرت بها فروع هذه المادة .. من عصر الأغريق. إلى يومنا هذا .. ولكن في مائتي عام مضت .. من عهد الثورة الفرنسية إلى الآن .. كانت هذه الظاهرة شديدة الوضوح، إلى حد أن مدارس القرنين الأخيرين ورجال هذه الحقبة من الزمن .. لا يزالون جميعًا يلقون بظلمهم على سير الدراسات الاقتصادية وتطبيقاتها .. ومن أشهر الأمثلة: مدرسة الطبيعيين .. التي اخترناها لهذه الحلقة .. فنقول:

مدرسة الطبيعيين

حين نقصد بالطبيعيين تلك المدرسة المعلومة في تاريخ المذاهب الاقتصادية، والتي ظهرت في فترة قصيرة في أواخر العهد الذي سادت فيه آراء التجاريين .. فإن القول ينصرف عندئذ إلى جماعة محدودة من خاصة الفرنسيين .. علا صوتهم في محافل باريس بوجه خاص في أواسط القرن الثامن عشر، وتألفت هذه الجماعة من بعض كبار الساسة والفلاسفة، أما قيادتهم فقد كانت للطبيب الخاص للملك لويس الخامس عشر .. وكان هذا الطبيب على جانب كبير من العلم والفضل، واسمه ((كيزناي)) ومنهم من يسقط حرف الزاي عند النطق. فيقول: ((كيناي))، وكان أيضًا الطبيب الخاص لامرأة مشهورة في التاريخ الزمني قبيل الثورة وهي مدام ((دي بومبادور)). ولد كيزناي عام 1694 وتوفي عام 1774 قبل ظهور كتاب آدم سميث ((ثروة الأمم)) بعامين اثنين ولهذه الإشارة دلالة خاصة (في تقدير شارل ريست) ومن ذلك قوله: لولا وفاة كيناي الاقتصادي الفرنسي قبل ظهور كتاب ثورة الأمم .. لكان الإهداء إليه ... وهذا مقبول ... ويؤيده كول ((مارشال)) أن ((سميث)) أفاد كثيرًا من الفرنسيين الذين عاصروه وبخاصة ((الطبيعيين)) .. ويلاحظ على هذه الجماعة أو المدرسة أنها كانت متماسكة متضامنة فظهرت مؤلفاتهم تباعًا وهي تؤيد فلسفة واحدة لم يحيدوا عنها كما أنهم كانوا حريصين على تثبيت المفهومات التي يدعون إلى قبولها ونشرها .. دون الاهتمام بأشخاص .. بل بالتركيز على ((الطبيعة))، وقد ظهر من آرائهم المذكورة في المتن مقدمات مبكرة (من قبل ظهور المدرسة التي تزعمها) ((كيناي)) ومن أشهر السباقين إلى النشر في بعض نواحي الاقتصاد نروجو (1727 - 1781) كتب عن النقود الورقية عام 1748 وكانت سنه عندئذ إحدى وعشرين سنة .. ولكن بحثه الهام الذي لفت إليه الأنظار ظهر عام 1766 وكان عنوانه ((نظرات في تكوين الثروات وتوزيعها)).

ولئن كانت الفترة التي غلبت فيها آراء الطبيعيين خالصة لا تكاد تزيد على عشر أعوام (قبيل ظهور آدم صيث) إلا أن الفلسفة التي تأثروا بها والقواعد التي قرورها كانت معروفة (ولو بمقدار) من قبل ظهورهم كما أن آثارهم المباشرة على الدراسات الاقتصادية (جملة) قد كانت يسيرة أما آثارهم غير المباشرة فقد امتدت من بعدهم طويلاً .. بحيث أن فريقًا من المعاصرين يعودون إلى أصول ما كتبه الطبيعيون (ما نشر منه وما لم ينشر) ويعمقون النظر إلى كل ما ذهبوا إليه .. ومن أحدث المراجع كتاب جمع الكثير ما لم يكن منشورًا من قبل وعكف أصحابه على التحليل والموازنة في بحث طويل ينتهي إلى القول بأن الطبيعيين وإن سبقوا في بعض ما قالوا به أو تشابهت أقوالهم بأقوال الآخرين، إلا أن مادة البحث تريد أن تقرر بأن لهذه المدرسة فلسفة خاصة قائمة بذاتها واسمها ((فيزير كراسي)) بمعنى ((التزام الطبيعة واعتبار هذا الالتزام نهجًا شاملاً للنشاط الإنساني)).

جدير بالذكر هنا أن كل مدرسة اقتصادية قد تأثرت بالعصر الذي عاشت فيه .. هكذا كانت الحال مع التجاريين الذين عاشوا زمن الكشوف الجغرافية وتوافر فرص المضاعفة من القيم بالمتاجرة .. وهكذا كانت الحال من قبل التجاريين حين كانت بقايا العصور الأولى لا تزال تصبغ العقل البشري بصبغة الجاهلية الأولى، ومن ملامحها رفع الذهب فوق المعادن إلى مرتبة خاصة فقد كان معدن الآلهة وكان الوضع الأليق به أقبية المعابد .. وبتعاقب الأجيال، تراجع المدن النفيس نوعًا ما، كما ارتخت قبضة التجاريين تحت ضغوط الفكر المتحرر نوعًا (للطبيعيين) .. وتوافرت الفرصة لظهور هذه المدرسة بدورها ولها بيئة تأثرت بها وأثرت فيها .. كما كانت الحال لسابقتها من المدارس، وهذا ما نعرض له حالاً ولكن سنذكر دائمًا أن نشأة كل واحدة من المدارس الاقتصادية لم تكن لتقضى على آثار ما سبق .. بل تواكبت المدارس تباعًا وكل منها ترك على الطريق أثرًا باقيًا ومن ثم كانت الوفرة في الفكر الاقتصادي تزاحمًا .. من غير شك .. أما أن يكون تقدمًا فهذا قول فيه نظر!!

نعود إلى سايق الحديث عن الطبيعيين بدورهم لنصف الجانب الذي عاش فيه هؤلاء الخاصة من رجال السياسة والحكمة ومن رجال الفكر والرأي .. ونريد بالجو الذي عاش فيه الطبيعيون الأوساط الاجتماعية والزمان والمكان. وقد عرفنا أن الزمان حول العهد الذي حكم فيه لويس الخامس عشر (أي أواسط القرن الثامن عشر) والمكان باريس .. وبقي أن نعرف شيئًا عن المجتمع الذي خالطه الطبيعيون ومنه بلاط الملك وما يليه من طبقات قليلة العدد وفيرة الثراء كثيرة البذخ شديدة الفساد .. ولا صلة لهذه الجماعات القافلة عن حقيقة الحياة بشيء اسمه الإنتاج .. ومن دون هذه القلة الغارقة في متاع محرم ولهو آثم .. مستويات من المجتمع .. ولدت في شقاء مذل .. وحملت من الجهد ما يقصم ظهور الحيوان. ثم حرمت من أسباب التماسك ما لا يمتنع على بهيمة الأنعام .. وفرض عليها أن تنسج من هذا كله حاضرها ومستقبل الأجيال من أبنائها ومن أحفادها .. حتى لا يحرم السادة من مجتمع البلاط والأثرياء جموعًا ترضخ لوقع السياط على الظهور جيلاً بعد جيل.

رأى الطبيعيون هذه الفوضى وعزوها إلى المدينة الزائفة التي صنعها الإنسان فباعدت بينه وبين جمال الطبيعة وما حوته من ضياء لا يغني عنه بريق كاذب .. ثم وازنوا بين جملة الخصال التي اجتمعت لهذه المدينة وحياة المترفين .. ما يسد الفراغ في حياة المجتمع وقد اعتزل الطبيعة .. ورأوا بوضوح كيف يفقد الإنسان كل ما يكون به إنسانًا وعلى الأخص: الفضيلة والعدل والمؤاخاة وطهارة الأعراض وصحة الأنساب وتماسك الدرجات المتكاملة للمجتمع الواحد مع الحرص على شرف المعاملات في حدود البلاد وفي العلاقات الخارجية .. هذا كله .. قد زال فإن بقيت فضلة منه .. فهي في مهب الريح.