سمات الأولياء وطريق الأنبياء

سمات الأولياء وطريق الأنبياء

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فمع حديث جليل القدر، عظيم النفع، نتأمل في بعض ألفاظه ومعانيه، ونستضئ بهديه، نسأل الله ان يوفقنا لسلوك سبيل أهل الرشاد.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ "

أولا: تخريج الحديث: أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع (٦٥٠٢).

ثانيا: صحة الحديث: الحديث صحيح والحمد لله

وقي كيفية تصحيح العلماء للحديث مذهبان:

1- الأول: الجزم بصحته مطلقًا، واعتماد ثبوته بهذا السند الذي رواه البخاري به، وعلى رأس هؤلاء من الأئمة شيخ المحدثين البخاري الإمام وغيره من المتقدمين فضلا عن تصحيح أكثر المتأخرين بل بالغ في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أصح حديث روي في صفة الأولياء".

2- الثاني: تصحيح الحديث بشواهده! مغ الحكم بضعف اسناد البخاري وممن ذهب إلى هذا: الشيخ الألباني في وعزاه للذهبي كذلك. (ينظر: «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (1640)).

وعلى أية حال فالحديث منة من الله على المؤمنين وله منزلة عظيمة في نفوس السلف

ثالثا: منزلة الحديث عند العلماء: وسمه العلماء بأفضل حديث روى في الولاية كما أسلفنا عن شيخ الاسلام

و قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هذا حديث قدسي جليل؛ قَالَ الطُّوفِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي السُّلُوكِ إِلَى اللَّه وَالْوُصُول إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَرِيقِهِ، إِذْ الْمُفْتَرَضَاتُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الْإِيمَان، وَالظَّاهِرَة وَهِيَ الْإِسْلَام، وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحْسَانُ فِيهِمَا، كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ جِبْرِيل، وَالْإِحْسَان يَتَضَمَّنُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ مِنْ الزُّهْد وَالْإِخْلَاص وَالْمُرَاقَبَة وَغَيْرهَا (ينظر فتح الباري: 11 / 345)

وقال الشوكاني رحمه الله في مقدمة كتابه «قطر الولي على حديث الولي (22) »: "فإنه لما كان حديث (من عادى لي ولياً) قد اشتمل على فوائد كثيرة النفع، جليلة القدر لمن فهمها حقّ فهمها، وتدبرها كما ينبغي، أحببت أن أفرد هذا الحديث الجليل بمؤلف مستقل، أنشر من فوائده ما تبلغ إليه الطاقة ويصل إليه الفهم، وما أحقّه أن يُفرد بالتأليف، فإنه قد اشتمل على كلمات كلها دُرر، الواحدة منها تحتها من الفوائد ما ستقف على البعض منه، وكيف لا يكون كذلك وقد حكاه عن الربّ سبحانه من أوتي جوامع الكلم، ومن هو أفصح من نطق بالضاد، وخير العالم بأسره، وأجل خلق الله، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم؟. ولم يستوف شرّاح الحديث رحمهم الله ما يستحقه هذا الحديث من الشرح! فإن ابن حجر رحمه الله لم يشرحه في فتح الباري إلا بنحو ثلاث ورق مع أن شرحه أكمل شرح للبخاري، وأكثرها تحقيقاً، وأعمها نفعاً". انتهى

رابعا: فائدة تربوية من تخريج البخاري له:

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق باب التواضع، ومناسبة ذلك أن عبادة التواضع هى من سمات أؤلياء الله تعالى وأنه كلما سما العبد بنفسه تواضعا لله كلما رفعه الله قربا منه تعالى ولا سبيل إلى ذلك إلا بهدي سيد المرسلين في تحقيق أوامر الشرع وذلك خلافا لمن ابتدع للولاية طريقا يرفع فيه عن العباد ويهدم تكاليفا لم يرفعها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم بل غالى المبتدع في بدعته حتى جعل لبعض الأولياء صفات لا تنبغي إلا لله تعالى فاعتبروا يا أولي الألباب.

خامسا: شرح الحديث:

قَوْله: " مِنْ عَادَى لِي وَلِيًّا " المعاداة ضد الموالاة، والولي ضد العدو، الْمُرَاد بِوَلِيِّ اللَّهِ، الْعَالِم بِاَللَّهِ،الْمُوَاظِب عَلَى طَاعَته، الْمُخْلِص فِي عِبَادَته؛ وهذه صفة المؤمن التقي؛ ومعنى قَوْله: " عَادَى لِي وَلِيًّا " أَيْ: اِتَّخَذَهُ عَدُوًّا، قَوْله: " فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ " أَيْ: أَعْلَمْته أنه محارب لي؛ وفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ أَهْلَكَهُ، فَغَايَة الْحَرْب الْهَلَاك، وَاَللَّه لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: فَقَدْ تَعَرَّضَ لِإِهْلَاكِي إِيَّاهُ

وَقَالَ الطُّوفِيُّ: لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ مَنْ تَوَلَّى اللَّهَ بِالطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى تَوَلَّاهُ اللَّهُ بِالْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ.ا.هـ. فأولياءُ الله تجبُ موالاتُهم، وتَحرُمُ معاداتُهم، كما أنَّ أعداءهُ تجبُ معاداتُهم، وتحرم موالاتُهم، قال تعالى: [لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ] [الممتحنة: 1 ].

ثم ذكر أسباب الولاية فقال: " وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ " يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ جَمِيعُ فَرَائِضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ..؛ قال ابن رجب -: لمَّا ذكر أنَّ معاداة أوليائه محاربةٌ له، ذكر بعد ذلك وصفَ أوليائه الذين تحرُم معاداتُهُم، وتجب موالاتُهم، فذكر ما يتقرَّب به إليه، وأصلُ الولاية: القربُ، وأصلُ العداوة: البعدُ، فأولياء الله هُمُ الذين يتقرَّبون إليه بما يقرِّبهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضيةلطردهم وإبعادهم منه، فقسم أولياءه المقربين إلى قسمين: أحدهما: من تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وتركَ المحرَّمات؛ لأنَّ ذلك كُلَّه من فرائضِ اللهِ التي افترضها على عباده. والثاني: من تقرَّب إليه بعدَ الفرائضِ بالنوافل، فظهر بذلك أنَّه لا طريق يُوصِلُ إلى التقرُّب إلى الله تعالى، وولايته، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله، فمنِ ادَّعى ولايةَ الله،والتقرُّب إليه، ومحبَّته بغير هذه الطريق، تبيَّن أنَّه كاذبٌ في دعواه.

قَوْله: " وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّب إِلَيَّ " التَّقَرُّب: طَلَبُ الْقُرْبِ، قَوْله: " بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْته " الْمُرَادبِالنَّوَافِلِ جَمِيع مَا يُنْدَب مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال، والمعنى: إِنَّهُ إِذَا أَدَّى الْفَرَائِض وَدَامَ عَلَى إِتْيَان النَّوَافِل مِنْ صَلَاة وَصِيَام وَغَيْرهمَا أَفْضَى بِهِ ذَلِكَ إِلَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى.

قَوْله: " كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ:

" قيل: الْمَعْنَى كُلِّيَّته مَشْغُولَةٌ بِي فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي، وَلَايَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ؛قال ابن رجب: فمتى امتلأ القلبُ بعظمةِ الله تعالى، محا ذلك مِنَ القلب كلَّ ما سواه، ولم يبقَ للعبد شيءٌ من نفسه وهواه، ولا إرادة إلاَّ لما يريدهُ منه مولاه، فحينئذٍ لا ينطِقُ العبدُ إلاّ بذكره، ولا يتحرَّك إلا بأمره، فإنْ نطقَ نطق بالله، وإنْ سمِعَ سمع به، وإنْ نظرَ نظر به، وإنْ بطشَ بطش به، فهذا هو المرادُ بقوله: " كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا "؛ ومن أشار إلى غير هذا، فإنَّما يُشير إلى الإلحاد مِنَ الحلول أو الاتِّحاد، والله ورسولُه بريئان منه.

وقيل في قوله (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها: إنه عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: كُنْتُ حَافِظَ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اِسْتِمَاعُهُ، وَحَافِظ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ؛ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ أَمْثَالٌ، وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ، وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ، وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ، وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ. ا.هـ.

وقَوْلُهُ: " وَلئِنْ سَأَلَنِي لأَعْطَيْنه ": أَيْ مَا سَأَلَ؛ قَوْله: " وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" أي: مما يخاف؛فذكر السؤال الذي به حصول المطلوب، والاستعاذة التي بها النجاة من المهروب، وأخبر أنه جل وعلا يعطي هذا المتقرب إليه بالنوافل ما سأل ويعيذه مما استعاذ؛..، فيصير مجابَ الدعوة لكرامته على ربه.

قَوْله: " وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ "

أَخْبَرَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَسُوءُهُ، وَيَكْرَهُ اللَّهُ مُسَاءَتَهُ؛ قيل: هَذَا خِطَابٌ لَنَا بِمَا نَعْقِلُ، وَالرَّبُّ مُنَزَّهٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: " وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً "؛ وقد عَبَّرَ ابن رجب - - عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَوْت حَتْمٌ مَقْضِيٌّ، وَهُوَ مُفَارَقَة الرُّوح لِلْجَسَدِ، وَلَا تَحْصُل غَالِبًا إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيم جِدًّا كَمَا جَاءَ عَنْ عَمْرو بْن الْعَاصِ أَنَّهُ سُئِلَ وَهُوَ يَمُوت فَقَالَ: كَأَنِّي أَتَنَفَّس مِنْ خُرْم إِبْرَة، وَكَأَنَّ غُصْنَ شَوْكٍ يُجَرُّ بِهِ مِنْ قَامَتِي إِلَى هَامَتِي؛ وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ عُمَر سَأَلَهُ عَنْ الْمَوْت فَوَصَفَهُ بِنَحْوِ هَذَا؛ فلما كان الموت بهذه الشِّدَّةِ، والله تعالى قد حتَّمه على عباده كلِّهم، ولابدَّ لهم منه، وهو تعالى يكرهُ أذى المؤمن ومساءته، سمَّى ذلك تردُّدًا في حقِّ المؤمن.ا.هـ (ينظر فتح الباري: 11 / 345)، (وكذلك جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب شرحه للحديث)

شبهة والجواب عنها

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن معنى تردد الله في هذا الحديث ؟ فأجاب: هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد ردَّ هذا الكلام طائفة، وقالوا: إنَّ الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إنَّ الله يعامل معاملة المتردد.

والتحقيق أنَّ كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه، فإذا كان كذلك؛ كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدبًا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله e عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة؛ ولكن المتردد منا - وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور - لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنْزلة ما يوصف به الواحد منا؛ فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ ثم هذا باطل، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهل منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه؛ كما قيل:

الشَّيْبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أَنْ أفَارِقَه... أعْجَبْ لِشَيْءٍ عَلى البغضاءِ محبوبُ

وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: " حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ) - مسلم (2822)، وقال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] [البقرة: 216 ]؛ ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال: " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ "؛ فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق محبًا له، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة؛ بحيث يحب ما يحبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت؛ ليزداد من محاب محبوبه، والله. عز وجل قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده، ولا بد منه؛ فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادًاللحق من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه مكروهًا من وجه، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته.... إلى أن قال: والمقصود هنا: التنبيه على أنَّ الشيء المعين يكون محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه، وأن هذا حقيقة التردد، وكما أنَّ هذا في الأفعال؛ فهو في الأشخاص، والله أعلم.ا.هـ من مجموع الفتاوى بتصرف يسير: (18 / 129: 135).

وللحديث صلة شهرنا المقبل إن شاء الله في بيان بعض ما يستفاد من الحديث والحمد لله رب العالمين.