نظرات في كتاب الرسالة للشافعي (2)

نظرات في كتاب الرسالة للشافعي

[ترجمة إمام الدنيا أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (المتوفى : 204 هـ)]

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}

و أشهد أن لا إله إلا الله، و أشهد أن محمدًا عبده و رسوله، و بعد :

فهذا هو المقال الثاني تحت هذا العنوان : نظرات في كتاب الرسالة للشافعي، و كان المقال الأول كالتوطئة لهذا الموضوع، و هذا المقال يمتد أيضًا للحديث عن ناصر السنة، و فقيه الملة، و سيد الفقهاء الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أتناول فيه ستة أمور باختصار :

ـ اسمه، و نسبه.

ـ نشأته، و مولده.

ـ سبب طلبه لعلم الفقه.

ـ مذهب الشافعي القديم.

ـ مذهب الشافعي الجديد.

ـ ثناء العلماء عليه، و وفاته.

اسمه، و نسبه : هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.

و نسبه يتصل بنسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الانتهاء إلى عبد مناف.

و قد أسلم جده السائب يوم بدر، و كان من أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصورة و الخلقه، فالسائب صحابي و عبد الله بن السائب أخو شافع بن السائب صحابي، و ابنه شافع : له رؤية، وهو معدود في صغار الصحابة، و ولده عثمان تابعي، فهو قرشي.

و أم السائب هي الشفاء بنت الأرقم بن هاشم بن عبد مناف، و أم الشفاء : خليدة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، و أم عبد يزيد الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف.

فالشافعي نسيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- و ناصر سنته، فهو ابن عم رسول الله، و ابن عمته لأن المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، و الشفاء بنت هاشم أخت المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

و قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد، لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام. » أخرجه البخاري في المناقب: باب مناقب قريش.

[ سير أعلام النبلاء ( 10 / 9 )، و إرشاد الطالبين إلى المنهج القويم ( ص 23 إلى 28 ) ]

نشأته و مولده : ولد بغزة من أرض الشام، على الصحيح، و قيل: بعسقلان، وقيل: باليمن، عام 150 هـ، و هي السنة التي توفي فيه الإمام أبو حنيفة النعمان، و مات أبوه إدريس شابًا، فنشأ الشافعى يتميًا فى حجر أمه فى قلة عيش وضيق حال، فلما خافت عليه الضيعة تحولت به إلى مكة، و هو ابن سنتين، فحفظ القرآن و له من العمر سبع سنين، و قد قرأه على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين القسط قارئ أهل مكة في زمانه، و قرأ إسماعيل على أبي داود شبل بن عباد مقرئ مكة، و أخبر شبل أنه قرأ على عبد الله بن كثير، وقرأ إسماعيل القسط أيضًا على ابن كثير، قال الذهبي: هو آخر من قرأ على ابن كثير.

و قرأ عبد الله بن كثير على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، و قد حفظ الموطأ، للإمام مالك و هو ابن عشر سنين.

فالشافعي على هذا أعلى سندًا من : البزي، و قنبل راويا ابن كثير بل هو في طبقة شيوخهم،

فقد قرأ البزي على عكرمة بن سليمان، وقرأ عكرمة على شبل والقسط، وهما على ابن كثير.

و قرأ قنبل على القواس عن أبي الأخريط وهب بن واضح عن شبل و القسط، و هما على ابن كثير.

وقد شرع بعد ذلك في طلب العلم على ضيق في سعة اليد، قال الحميدي: سمعت الشافعي يقول: كنت يتيمًا في حجر أمي، و لم يكن لها ما تعطيني للمعلم، و كان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب، وأخفف عنه.

و عن الشافعي، قال : كنت أكتب في الأكتاف و العظام، و كنت أذهب إلى الديوان، فأستوهب الظهور، فأكتب فيها.

سبب طلبه لعلم الفقه :

كان الشافعي رحمه الله تعالى محبًّا للغة و الأدب، فأقبل على الأدب والعربية والشعر، فبرع في ذلك، ثم إنه طلب ما هو خير من ذلك، عن الحميدى قال: قال الشافعى: خرجت أطلب النحو والأدب، فلقينى مسلم بن خالد الزنجى، فقال: يا فتى، من أين أنت؟

قلت: من أهل مكة.

قال: أين منزلك؟

قلت: بشعب الخيف.

قال : من أي قبيلة أنت ؟

قلت: من عبد مناف.

فقال: بخ بخ، لقد شرفك الله فى الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا فى الفقه فكان أحسن لك ؟! [ طبقات الفقهاء، للشيرازي ( ص 72 ) ].

و قد تفقه الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ على جماعات منهم :

أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي مفتى مكة وإمام أهلها، وتفقه مسلم على أبى الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وتفقه ابن جريج على أبى محمد عطاء بن أسلم أبى رباح، وتفقه عطاء على أبى العباس عبد الله بن عباس، وأخذ ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، و عن عمر بن الخطاب، و علي، و زيد بن ثابت، و جماعات من الصحابة، رضى الله عنهم، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

و قد أذن له وأذن له شيخه مسلم بن خالدج فى الإفتاء، و له دون العشرين سنة.

فلما أخذ الشافعى ـ رحمه الله ـ فى الفقه، وحصل منه على مسلم بن خالد الزنجى وغيره من أئمة مكة ما حصل، رحل إلى المدينة قاصدًا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس إمام المدينة، و قرأ الموطأ على مالك حفظًا، فأعجبته قراءته، فكان مالك يستزيده من القراءة لإعجابه من قراءته، قال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس، وقد حفظتُ "الموطأ"، فقال لي: أَحضرْ من يقرأ لك، فقلت: أنا قارىء، فقرأت عليه "الموطأ" حفظًا، فقال: إن يكُ أحدٌ يفلح، فهذا الغلام.

ولازم مالكًا فقال له: اتق الله، فإنه سيكون لك شأن، وفى رواية أنه قال له : إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية.

و قد تفقه مالك بن أنس على ربيعة بن عبد الرحمن، وتفقه ربيعة بن عبد الرحمن على أنس بن مالك صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

و تفقه مالك أيضًا على نافع، عن ابن عمر، و كلاهما ـ أنس، و ابن عمر ـ عن النبى -صلى الله عليه وسلم-.

و قد صاحب الشافعي الإمام مالك حتى توفي في المدينة، ثم ولى باليمن واشتهر من حسن سيرته، وحمله الناس على السنة والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة.

و قد سمع بالمدينة من إسماعيل بن جعفر، و جماعته.

و من شيوخه : سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، و ا بن عباس، رضى الله عنهم و كلاهما ـ ابن عباس، و ابن عمر ـ عن النبى -صلى الله عليه وسلم-.

و قد استفاد من محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة، قال الشافعي : كتبت عنه وقر بختي، و ما ناظرت سمينًا أذكى منه، ولو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن، لقلت ؛ لفصاحته.

و قد نظر الشافعي في كتب محمد بن الحسن نظر المتعلم الناقد البصير، قال أحمد بن أبي سُريح: سمعت الشافعي، يقول : أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين دينارًا، ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسأَلة حديثًا، يعني ردًّا عليه.

و قد كان محمد بن الحسن له محبًا معظمًا، قال أبو حسان الزيادي : ما رأيت محمدَ بنَ الحسن يعظِّم أحدًا من أهل العلم تعظيمَه للشافعي، ولقد جاءه يومًا، فلقيه وقد ركب محمد بن الحسن، فرجع إلى منزله، وخلا به يومه إلى الليل، ولم يأذن لأحد عليه.

و قد تفقه محمد بن الحسن الشيباني، على أبي يوسف و أبي حنيفة، و هو أخذ أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

مذهب الشافعي القديم :

قدم الشافعي إلى بغداد سنة 195 هـ و له من العمر خمس و أربعون عامًا، و بقي فيها عامان، و فيها أسس مذهبه القديم.

قال الزعفراني: قدم علينا الشافعي بغداد سنة خمس وتسعين ومائة، فأقام عندنا سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم قدم علينا سنة ثمان وتسعين و مائة.

قال أبو الفضل الزجاج : لما قدم الشافعي إلى بغداد و كان في الجامع إما نيف وأربعون حلقة أو خمسون حلقة، فلما دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة و يقول لهم : قال الله و قال الرسول.

و هم يقولون : قال أصحابنا، حتى ما بقي في المسجد حلقة غيره. [ تاريخ بغداد ( 2 / 404) ].

و قد لقب الشافعي في العراق بناصر الحديث، و غلب فى عرف العلماء المتقدمين و الفقهاء الخراسانيين على متبعي مذهبه لقب أصحاب الحديث.

و قد اجتمع للشافعي في هذا الوقت علمي أهل الحديث، و أهل الرأي، و تنقح في ذهنه مذاهب العلماء المعاصرين له و السابقين فتهيأ له وضع مذهبه القديم.

قال النووي في تهذيب الأسماء و اللغات ( 1 / 49 ) : « جاء [ يعني الشافعي ] بعد أن مهدت الكتب، و صنفت، و قررت الأحكام، ونقحت ؛ فنظر فى مذاهب المتقدمين، و أخذ من الأئمة المبرزين، و ناظر الحذاق المتقنين، فبحث مذاهبهم و سبرها وتحققها و خبرها، فلخص منها طريقة جامعة للكتاب، و السنة، و الإجماع، و القياس.

و لم يقتصر على ذلك كما وقع لغيره، و تفرغ للاختيار و التكميل و التنقيح مع كمال قوته و علو همته و براعته فى جميع أنواع الفنون، واضطلاعه منها أشد اضطلاع.

و هو المبرز فى الاستنباط من الكتاب و السنة، البارع فى معرفة الناسخ و المنسوخ، و المجمل و المبين، و الخاص و العام، و غيرها من تقاسيم الخطاب، فلم يسبقه أحد إلى فتح هذا الباب ؛ لأنه أول من صنف أصول الفقه بلا اختلاف و لا ارتياب، وهو الذي لا يساوى، بل لا يدانى فى معرفة كتاب الله تعالى، و سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، و رد بعضها إلى بعض، و هو الإمام الحجة فى لغة العرب و نحوهم، فقد اشتغل فى العربية عشرين سنة مع بلاغته و فصاحته، و مع أنه عربى اللسان و الدار و العصر، وبها يعرف الكتاب و السنة. »

و قد صنف فى العراق كتابه القديم المسمى كتاب "الحجة "، و هذا الكتاب يرويه عنه أربعة من كبار أصحابه العراقيين، وهم : أحمد بن حنبل، و أبو ثور، و الزعفراني، و الكرابيسي، و أتقنهم له رواية الزعفراني.

و فيها صنف رسالته القديمة كما تقدم في آخر المقال السابق بطلب من عبد الرحمن بن مهدي، قال على بن المديني قلت لمحمد بن إدريس الشافعي : أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه فقد كتب إليك يسألك وهو متشوق إلى جوابك قال : فأجابه الشافعي، و هو كتاب الرسالة التي كتبت عنه بالعراق و إنما هي رسالته إلى عبد الرحمن ابن مهدي.

[ الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ( ص 73 ) ]

و قد طلب ابن مهدي من الشافعي أن يضع له كتابًا فيه : معاني القرآن، و يجمع قبول الأخبار فيه، و حجة الإجماع، و بيان الناسخ و المنسوخ من القرآن والسنة. [ تاريخ بغداد ( 2 / 404 ) ]

فأجابه الشافعي لما أراد و حمل الرسالة الحارث بن سريج النقال ـ بالنون ـ أبو عمرو الخوارزمى ثم البغدادي، و قد سمي النقال لنقله رسالة الشافعي لابن مهدي.

قال الحارث : لما حملت الرسالة إلى عبد الرحمن بن مهدى جعل يتعجب، و يقول لو كان أقل لنفهم، لو كان أقل لنفهم.

و كان عبد الرحمن بن مهدي يقول : لما نظرت في كتاب الرسالة لمحمد بن إدريس أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل فقيه ناصح و إني لأكثر الدعاء له. [ تاريخ دمشق، لابن عساكر ( 51 / 324 )]

مذهب الشافعي الجديد :

عاد الشافعي إلى بغداد بعد سفرته الأولى منها إلى مكة عام : 198 هـ، و مكث فيها أشهرًا ثم رحل إلى مصر مع عبد الله بن العباس بن موسى الهاشمي عام : تسع وتسعين ومائة ( 199 هـ ) لما تاقت نفسه لدخولها و استوطنها و مات فيها، عن الربيع، قال : سمعت الشافعي، يقول في قصة ذكرها :

لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ومن دونها أرض المهامة و القفر، فوالله ما أدري أللفوز والغنى أساق إليها أم أساق إلى قبري؟

قال: فوالله ما كان إلا بعد قليل حتى سيق إليهما جميعًا. [ تاريخ بغداد ( 2 / 404 ) ]

و في مصر وضع الشافعي مذهبه الجديد، و صنف فيه سائر كتبه، و أعاد فيها تصنيف الرسالة، و ذلك في أربع سنين، فمن كتبه تلك :

كتاب الرسالة الجديدة، و كتاب اختلاف الأحاديث، و كتاب جماع العلم، و كتاب إبطال الاستحسان، و كتاب أحكام القرآن، و كتاب بيان فرض الله عز وجل، و كتاب صفة الأمر والنهي، وكتاب اختلاف مالك والشافعي، و كتاب اختلاف العراقيِّين، و كتاب الردّ على محمد بن الحسن، و كتاب الأم، و غيرها.

ثناء العلماء عليه :

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي فإني أسمعك تكثر من الدعاء له ؟

فقال لي: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض ؟!

و قال يحيى بن معين: كان أحمد بن حنبل ينهانا عن الشافعي، ثم استقبلته يومًا و الشافعي راكب بغلة و هو يمشي خلفه.

فقلت: يا أبا عبد الله : تنهانا عنه وتمشي خلفه.

فقال: اسكت، لو لزمت البغلة انتفعت.

و عن الحسين بن محمد الكرابيسي قال: ما رأيت مجلسًا أنبل من مجلس الشافعي، كان يحضره أهل الحديث، و أهل الفقه، و الشعر، و كل يتعلم منه و يستفيد.

و قال أيضًا : ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى الشافعي مثل نفسه.

وعن أبي ثور قال: لو لم يقدم علينا الشافعي للقيت الله ضالاً.

وقال أحمد بن علي الجرجاني كان الحميدي إذا جرى عنده ذكر الشافعي قال : حدثنا سيد الفقهاء الإمام الشافعي.

و قد عُدَّ الشافعي رحمه الله تعالى مجدد المائة الثانية، عن عبد الملك الميموني، قال : كنت عند أحمد بن حنبل، وجرى ذكر الشافعي، فرأيت أحمد يرفعه، وقال: يروى عن النبي، -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها»، فكان عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه: على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى.

وفاته : توفي أبو عبد الله ليلة الخميس، و قيل ليلة الجمعة، ليوم بقي من شهر رجب سنة أربع و مائتين، وله أربع وخمسون عامًا.

و قد آن لي أن أضع القلم على تقصيري في ترجمة هذا الإمام الفذ لكن حسبي أن يقال في الشافعي : هو الشافعي فهو أشهر في الدنيا من أن يعرف به.

و إلى لقاء قريب بإذن الله أفرده لكتاب الرسالة.