التربية بين الأصالة والتجديد

(الحلقة الرابعة)

الرسول صلى الله عليه وسلم معلما

بيانات المقال

السنة

11 (1403هـ)

العدد

126 (جمادى الآخرة)

الصفحات

18: 23

التاريخ الميلادي

1983م

 

الرسول -صلى الله عليه وسلم- معلمًا :‏

كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي المدرسة الأولى التي كان يلتف المسلمون الأوائل ‏فيها حول النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليهم القرآن ويعظهم ثم أصبح بعد ذلك ‏النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانًا للدعوة. فلما هاجر كان المسجد هو مكان العلم ‏والفتوى والقضاء والعبادة وكان من خصائص تعليمه لصحبه الكرام:‏

أولاً: تقسيم المواعظ وتفريقها مع الأوقات. وذلك لأن كثرة العلم ينسى بعضه ‏بعضًا ولأن دوام التذكرة في حياة المسلم أمر ضروري لتصحيح سلوكه وصرف ‏الشيطان عنه. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة منا ( رواه البخاري ).‏

هذا ولا يمنع ذلك أن تكون بعض المواعظ من النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثت في ‏أوقات نادرة وكانت طويلة كما روى مسلم عن عمرو بن أخطب قال صلى بنا رسول ‏الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ‏ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا ‏حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا.‏

ثانيًا: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب الناس بقدر إدراكهم وفهمهم ‏وحسب خبراتهم. ففيهم البدوى والحضري والصغير والكبير والذكر والأنثى. ‏فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: ‏

جاء رجل من بني فزارة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال إن امرأتي ولدت غلامًا ‏أسود وإني أنكرته فقال له النبي: هل لك من إبل ؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها ‏‏؟ قال حمر، قال هل فيها أورق (1) ؟ قال: إن فيها لورقًا، قال: فأني أتاها ‏ذلك ؟ قال: عسى أن يكون نزعة عرق (2)، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ‏‏( متفق عليه).‏

ثالثًا: وضوح البيان: حيث كان -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم تكلم ثلاثًا لكي يفهم ‏عنه وإذا تكلم تكلم كلامًا مفصلاً يبينه فيحفظه من سمعه منه. قال أنس رضي الله ‏عنه يصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( كان إذا تكلم أعادها ثلاثًا حتى يفهم ‏عنه ) رواه البخاري. ‏

رابعًا: الرفق بالأصحاب حتى يتعلم جاهلهم: روى مسلم في صحيحه عن معاوية ‏بن الحكم السلمي رضي الله عليه قال: بينا أنا أصلى مع رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم إذ عطس رجل في القوم فقلت يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم. فقلت ‏واثكل أمياه (3) ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما ‏رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو ‏وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني (4) ولا ‏ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما ‏هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية ‏وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم. قال ومنا ‏رجال يتطيرون. قال ذلك شئ يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم … إلخ الحديث.‏

فانظر رفقه في تعليم الرجل حديث العهد بالإسلام وانظر كيف يعطيه الجواب عن ‏مسائله بقدر ما يحتاج للعمل لم يفصل فيه لأن الرجل لا يزال قريب عهد ‏بالجاهلية.‏

وفي ذلك أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وغيره واللفظ له: دخل أعرابي المسجد والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس فصلى فلما فرغ قال اللهم ‏ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا. فالتفت إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال ‏لقد تحجرت(5) واسعًا، فلم يلبث أن بال في المسجد. فقال النبي صلى الله عليه ‏وسلم: دعوه. حتى إذا فرغ قال أهريقوا عليه سجلا من ماء، ثم قال إنما بعثتم ‏ميسرين ولم تبعثوا معسرين) وفي رواية ابن حبان فقال الأعرابي بعد أن فقه في ‏الإسلام: فقام إلى (بتشديد الياء) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤنبني ولم ‏يسبني وقال: إنما بني هذا المسجد لذكر الله والصلاة.‏

بعض الأساليب التربوية التي عالج بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المجتمع ‏الجاهلي(6)

أولاً: القدوة الحسنة :‏

إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة الحسنة والأسوة الطيبة والمثل الذي ‏يحتذي من المسلمين جميعًا وهذا ما يدعو القرآن الكريم إليه بقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) (7) ‏وقد استدل علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على صحة الاحتجاج بأفعال الرسول ‏-صلى الله عليه وسلم-.

بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو كثيرًا للاقتداء به فمن ذلك صلاة النبي ‏-صلى الله عليه وسلم- على المنبر ليراه الناس فيتعلموا. فعن سهل بن سعد رضي الله ‏عنه قال: ( …. ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام عليه (8) فكبر ‏وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ‏ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: يأيها الناس إني إنما ‏صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ) رواه مسلم.

وفي سياق حجة الوداع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى الجمرات من بطن الوادي ‏وهو على الراحلة يقول ( لتأخذوا مناسككم فإني لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتي ‏هذه … ) رواه مسلم. ولقد وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت ( كان خلقه ‏القرآن ).‏

هذا وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصحح للناس أعمالهم بسلوكه ويدلهم على ذلك ‏‏: عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه ‏وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها - وقالوا: أين نحن من النبي ‏-صلى الله عليه وسلم- فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا ‏فأصلى الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر وأنا ‏أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: (‏أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر ‏وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني (متفق عليه).‏

ومن ذلك ما رواه ابن حبان في شأن عثمان بن حنيف رضي الله عنه عندما شغله قيام ‏الليل عن حق زوجته قال ( … فلقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا عثمان: أما ‏لك فيّ ( بتشديد الياء ) أسوه؟ قال: وما ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي ؟ قال: ‏أما أنت فتقوم الليل وتصوم النهار وإن لأهلك عليك حقًا وإن لجسدك عليك حقًا … ‏‏) (9) ‏

وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وكان ‏أجود الناس وكان أشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل ‏الصوت فتلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت وهو ‏على فرس لأبي طلحة عرى (10) في عنقه السيف. وهو يقول لم تراعوا لم تراعوا ‏‏(11) (متفق عليه).‏

وعن علي رضي الله عنه قال: إنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا ‏برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. ‏

ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربنا إلى العدو ‏وكان أشد الناس بأسًا ( رواه أحمد).‏

هذا وإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يتعلمون الدين والسلوك من النبي ‏- صلى الله عليه وسلم -. فترى البخاري في كتاب الصلاة يروى عن عثمان بن عفان ‏وضوءه ثم يشهد أنه وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويروى عن جابر بن عبد الله ‏أنه يصلى في ثوب واحد ورداؤه موضوع ويحتج على صحة ذلك بقوله رأيت النبي ‏-صلى الله عليه وسلم- يصلى هكذا. ويروى عن مالك بن الحويرث أنه يقوم فيصلى ثم ‏يقول: إني لأصلى بكم وما أريد الصلاة. أصلى كما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏يصلى. ومن أمثلة ذلك ما لا يقع تحت حصر بل قد تتعدى القدوة أكثر من ذلك. ‏روى مسلم أن ابن عمر كان يأتي مسجد قباء كل سبت ويقول: رأيت النبي صلى ‏الله عليه وسلم يأتيه كل سبت.‏

فلا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل الذي يحتذي والقدوة الذي يقتدي به في ‏كل أمر: زوجًا في بيته، أبًا مع أبنائه، قائدًا لجنده، معلمًا لأتباعه، عابدًا ‏لربه، قدوة في الكرم والجود، قدوة في الشجاعة والإقدام، قدوة في الحلم والصفح ‏‏، قدوة في العلم والعبادة، قدوة حتى في ملبسه ونومه وسيره وسائر عمله. وإن ‏التعليم بالقدوة لهو أنجح الوسائل فيقول الشاعر في ذلك:‏

يأيها الرجل المعلم غيره

 

هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ‏

 

كما يصح به وأنت سقيم ‏

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ‏

 

عار عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

 

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل ما وعظت ويقتدي

 

بالعلم منك وينفع التعليم ‏

‏ونحن اليوم إذا راجعنا صفحة حياتنا وسألنا عن مشاكلنا لوجدنا: الطبيب يحذر ‏من التدخين ومن أضراره والسيجار في فمه، والاقتصادي يدعو إلى التقشف وخاتم ‏الذهب والعقيق يملأ كفه فضلا عن أصابعه، والواعظ ينهى عن فحش القول بالقول ‏الفاحش ،والذين يدعون إلى الحرص على الوقت يضيعون الأوقات سدى، والله ‏سبحانه يقول (  سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (12)‏

وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا ينقلون منه العلم بالاقتداء ثم تراهم ‏يعلمون ذلك بالقدوة إلى الحيل الذي يليهم حتى إن الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام ‏أهل المدينة يأخذ بعمل أهل المدينة ويقدمه على حديث الآحاد لأنه نقل بالتواتر ‏العملي. ‏

والله نسأل أن يعين العلماء والأمراء على أن يكونوا قدوة لنا في العلم والعمل.‏

 ---

‏(1) الاورق: الذي به سواد.‏

‏(2)  نزعه عرق: الأصل والنسب من الأجداد البعيدة يظهر في الأبناء.‏

‏(3)  واثكل أمياه بضم الثاء وسكون الكاف وفتح اللام وضم الهمزة وفتح الياء ‏كلمة مثل ثكلتني أمي دعاء يراد به التعجب الشديد عند الغضب.‏

‏(4)  كهرني: انتهرني.‏

(5) تحجرت = ضيقت.‏

(6) وهو ما أشرنا إلى بعض صفاته في عدد ربيع الأول 1403.‏

(7)  الأحزاب آية 21.‏

(8)  وقف على المنبر.‏

(9) راجع مقال الحقوق الزوجية (الزواج شرعة إسلامية ) مجلة التوحيد عدد ‏ذي الحجة 1402.‏

(10) عرى = أي أن الفرس لا سرج عليه.‏

(11)  لم تراعوا = أي أنتم في أمان.‏

(12) الصف آية 2، 3.‏