التربية بين الأصالة والتجديد

(الحلقة السادسة)

أسلوب السؤال والجواب

بيانات المقال

السنة

11 (1403هـ)

العدد

132 (ذو الحجة)

الصفحات

26: 32

 

كان حديثنا السابق حول التربية بالقدوة ثم التربية بالإرشاد والتوجيه حيث أشرنا إلى أسلوب ضرب المثل وفي هذا المقال ننتقل إلى أسلوب آخر من أساليب التربية وهو:

 أسلوب السؤال والجواب

إن صيغة السؤال والجواب كأسلوب تربوي استخدمه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه للإرشاد والتوجيه والتصحيح والتعليم لهو من أجل الأساليب، وعلماء التربية المعاصرون يرونه طريقة جيدة إذا أحسن استخدامها في التعليم وتثبيت العلم.

وصيغة السؤال والجواب كما استخدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- يمكن تبويبها في الأقسام التالية.

أولا: السؤال عن أمر يمكن أن يجيبوا عنه ليختبر ما عندهم من العلم.

وفي ذلك نذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم. حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة (رواه البخاري).

وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله أعظم. قال: قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال فضرب في صدري وقال ليهنك العلم أبا المنذر (رواه مسلم).

ثانيًا: السؤال لبيان الأمر الأولى بالاعتبار والاهتمام

مثل حديث نبيط بن شريط قال: إني لرديف أبي في حجة الوداع إذ تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقمت على عجز الراحلة ووضعت يدي على عاتق أبي فسمعته يقول: أي يوم أحرم؟ قالوا: هذا اليوم. قال: فأي بلد أحرم؟ قالوا: هذا البلد. قال فأي شهر أحرم؟ قالوا هذا الشهر. قال فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال اللهم اشهد، اللهم اشهد (رواه أحمد).

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما تعدون الرقوب فيكم، قال: قلنا الذي لا يولد له. قال ليس ذاك بالرقوب ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئًا. قال فما تعدون الصرعة فيكم. قال: قلنا: الذي لا يصرعه الرجال. قال ليس بذلك ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب (رواه مسلم).

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار (رواه مسلم).

وحديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ما تقولون في الزنى؟ قالوا: حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه لن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن نزني بامرأة جاره. قال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا حرمها الله ورسوله فهي حرام. قال لأن يسرق الرجل عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق جاره (رواه أحمد).

ثالثًا: السؤال لتصحيح المفهوم كأن يكون الناس قد اعتادوا أمرًا في الجاهلية ثم جاء الإسلام فنزع ذلك والنبي -صلى الله عليه وسلم- يوضح ما يطابق الفهم الإسلامي.

من ذلك حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: مر رجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف المسلمين، هذا والله حري أن خطب أن ينكح وأن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما رأيك في هذا؟ فقال يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري أن خطب أن لا ينكح وأن شفع أن لا يشفع وأن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا (رواه البخاري).

رابعًا: السؤال عما لا يعرفونه. وإنما يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ينبه أصحابه إلى طلب معرفة ذلك. وهذا النوع من السؤال هو الذي يقولون في جوابه (الله ورسوله أعلم) من ذلك حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي بالكوكب. وأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب (رواه مسلم).

خامسًا: السؤال بصيغة "ألا أدلكم" لينبه السامع إلى ما يأتي من فوائد جليلة.

من ذلك حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ألا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم ألا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين (متفق عليه).

وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى قال: ذكر الله تعالى (رواه الترمذي).

وقد يصاحب إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن السؤال ما يفيد مزيد من الانتباه والاهتمام:

من ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين. قال: وجلس وكان متكئًا قال وشهادة الزور أو قول الزور. قال فمازال يقولها حتى قلنا ليته سكت (متفق عليه).

 الاستفادة من بعض المواقف تربويًا

قد يحدث حدث كوني أو يمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء أو يشاهده فيعلم أصحابه في هذا الموقف ما يثبت الاعتقاد أو يصحح المفهوم أو يزيد الأمر إيضاحًا. ومن أمثلة ذلك:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سبى فإذا امرأة في السبى قد تحلب ثديها بسقى إذ وجدت صبيًا في السبى أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا وهي تقدر أن لا تطرحه. فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها (رواه البخاري).

وحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق داخلا من بعض العالية والناس كنفيه فمر بجدى أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت! فقال فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم (رواه مسلم).

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي-صلى الله عليه وسلم-م قال: ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزءًا من واحد من سبعين جزءًا من نار جهنم. قالوا والله إن كانت لكافية. قال: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها (متفق عليه).

وعن المغيرة بن شعبة: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الناس انكسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتوهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي (متفق عليه).

وإنما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لتصحيح مفاهيم الناس وتوضيح الحق ونفي الغلو

ومن المواقف التي حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يتعلم منها أصحابه دروسًا جليلة ما كان بشأن غنائم حنين وتقسيمها. وهذا حديثها (لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطغان وغيرهم بنعمهم وذراريهم ومع النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقى وحده فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما، التفت يمنة فقال يا معشر الأنصار. فقالوا لبيك يا رسول الله. أبشر نحن معك. ثم التفت عن يساره فقال يا معشر الأنصار.فقالوا لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك.وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال أنا عبد الله ورسوله فانهزم المشركون. فأصاب يومئذ غنائم كثيرة فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئًا. فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة غيرنا. فبلغه ذلك فجمعهم. فقال ما حديث بلغني عنكم؟ فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا. وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا معشر الأنصار: أمل أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ وهم يقولون: الله ورسوله أمن. فقال ألا تجيبون؟ فقالوا: الله ورسوله أمن. فقال أما والله لو شئتم أن تقولوا: أتيتنا مكذبًا فصدقناك. ومخذولا فنصرناك. وطريدًا فآويناك. وعائلا فواسيناك. فقالوا: الله ورسوله أمن. فقال -صلى الله عليه وسلم- فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم. أما ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم. فوالله ما تتقبلون به خير مما ينقلبون به. فقالوا يا رسول الله قد رضينا. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار ولو سلك الناس شعبًا (بكسر الشين) وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسمًا وحًظًا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ستجدون أثرة شديدة فاصبوا حتى تلقوا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- تلقوني على الحوض.

الحديث موصول إن شاء الله تعالى.