طباعة
المجموعة: جمادى الآخرة 1442هـ
الزيارات: 1056

بين الادعاء والصدق في محبَّة خير الخلق صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ

(الحلقة الثالثة والأخيرة)

د. مرزوق محمد مرزوق

بيانات المقال

السنة

50 (1442هـ)

العدد

594 (جمادى الآخرة)

الصفحات

                  17: 19

التاريخ الميلادي

2021م

 

الحمد لله الذي زيَّن قلوب أوليائه بمحبة رسوله وألزم قلوب المحبين باتباع شرعه، وصلاة وسلامًا دائمين على عبده ورسوله وصفيه من خلقه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه، وبعد:

فقد بدأنا في شهر ربيع الآخر شرح حديث صحيح من دلائل الإعجاز النبوي وكان اختياره مناسبة لما بدا من شرذمة حاقدة جاهلة على مَن أرسله الله رحمة لها ولغيرها من العالمين وكانت المساهمة بيانًا لبعض حقوقه صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وبشرى بانتقام الله له، ثم خُتِمَ الرحيق ببعض مواقف من محبَّة أصحابه له.

هذا، واستكمالاً لما سبق نقول وبالله تعالى التوفيق:

الحديث:

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ. (صحيح البخاري: ٣٦١٧).

التخريج: هذا الحديث متفق عليه، وقد تقدم تخريجه وشرحه تفصيلاً في الحلقة الأولى في شهر ربيع الآخر، وفيما يتعلق بفوائد الحديث تقدم في الحلقتين السابقتين بيان ما يلي:

- أنَّ الابتلاء سنة من سنن الله عز وجل.

- وأنَّ الله -تبارك اسمه وتعالى شأنه- ناصرٌ دينَه ومُنتقِم لنبيه لا محالة.

- ثم بيَّنَّا حُكم السّبّ ومناطه، وأنه أشد من الردة وبينا كذلك أن هذه الأحكام النظرية يتولى إقامة حدودها العملية ولي أمر المسلمين، ولا يُتْرَك لعوامهم؛ وذلك صيانةً للمجتمع المسلم من الفوضى.

- وبيّنّا كذلك وجوب الحذر من الفتن خوفًا من النكوص.

إذ في أخبار الناكصين على أعقابهم عِبَر للمعتبرين، وآيات للمتعظين، كما قال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: 63].

- ثم دللنا على وجوب تعظيم قدر النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ واجتهاد العبد في تنمية ذلك في قلبه. فليراجع جميعه تفضلاً.

ثم ها نحن اليوم نختم بما ييسره الله تبارك وتعالى، ويفتح به من بيان دورنا تجاه هذه المحنة، ثم يكون مسك الختام بذكر نماذج من محبة سلفنا الكرام لنبينا عليه الصلاة والسلام.

ومما يستفاد من الحديث استكمالاً لما سبق:

أولاً: وجوب محبة النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ والدفاع عنه:

ودلالتها من الحديث هي محبَّة الله ونصرته له صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ والتي تُوجِب على الخلق محبته. ومكنون في صدور المؤمنين أنَّ حُبّ النبي هو أسمى العلاقات، وأرفع المقامات، وهو سلوة الفؤاد وهو إخلاص وصفاء ونقاء، نعم.. وبحبّه تُغْفَر الزلات وتُقَال العثرات وتُرْفَع الدرجات، ودليل ذلك ما ثبت أنه جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: «وماذا أَعْدَدْتَ لها»؟ قال: لا شَيْءَ إلا أنّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَهُ. فقال: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» (رواه البخاري: 3688).

وهذه المحبة ليست كما يتفرّق المخالفون في خيالات الهوى والآراء من وَجْد صوفي أو تصوّر علماني وإنما هي محبَّة شرعية عقدية منبعها الكتاب والسنة، لذا فإننا نقول: لا شك أن محبته صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ والدفاع عن سُنّته واجب حتميّ على المؤمنين فلا يختلف في ذلك اثنان ولا ينتطح فيه عنزان، لكنَّ الخلاف الواقع في ترجمة هذه المحبَّة إلى عمل فلا يقتصر الإيمان على الاعتقاد والادعاء دون العمل، وهو واضح لدى أهل السنة والجماعة من علماء الملة؛ إذ الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقادٌ، وعلى هذا فلو توفر الاعتقاد والقول ولا نشك فيه عند عقلاء المؤمنين فهي فطرة فطر الله عليها القلوب فلو توفر هذا وهو واقع فماذا بقي إذن مما وجب؟ نقول: بقي الشرط الثالث وهو العمل بهذه المحبة يا عباد الله؛ فالمحبة ليست نافلة بل هي فريضة واجبة.

عن عبد الله بن هشام قال: " كُنّا مع النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شيءٍ إلّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-: لا، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-: الآنَ يا عُمَرُ» (رواه البخاري: 6632)، وبذلك يُعلم أن محبته صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أصلٌ من أصول الدين.

ثانيًا: دلائل محبة النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ:

فإن كانت المحبة واجبة فهي تحتاج إلى برهان يدل عليها، ومن ذلك:

1- أن الله أمر بتعزيره وتوقيره قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}[الفتح: 9].

قال شيخ الاسلام رحمه الله: "التعزير اسم جامع لنَصْره وتأييده ومنعه من كلّ ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال، وأن يُعامَل مِن التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كلّ ما يخرجه عن حدّ الوقار" (الصارم المسلول: ص422).

هذا وقد رتَّب الله تعالى الفلاح العام في الدنيا والآخرة على مَن حقَّق هذا الأدب تجاه النبي الكريم وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157)، وعليه فقد علم وجوب تعظيمه وتوقيره ولا يكون إلا مِن مُحِبّ. (ينظر: المنهاج في شعب الإيمان للحليمي، ص422).

2- ومن أهم دلائل محبته صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ:

- أن نُحقّق محبّته اعتقادًا وقولاً وعملاً كما أسلفنا، ثم نقدّمها على محبَّة النفس والولد والناس أجمعين. كما جاءَ في حديثَ عمرَ السَّابقِ. وكذلك يقول الله -تعالى-: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

يقول القاضي عياض عن هذه الآية: "فكفى بهذا حضًّا وتنبيهًا ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-؛ إذ قرَّع -سبحانه- من كان ماله وأهله وولده أحبّ إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله -تعالى-: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمرِهِ)، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضلَّ ولم يهده الله" [الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/18].

وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- قال: "لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن ولَدِهِ ووالِدِهِ والنّاسِ أجْمَعِينَ"(رواه مسلم: 44).

- ومن أظهر دلائلها الاتباع وتحريم الابتداع قوله صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ"(متفق عليه من حديث أُمّنا عائشة رضي الله عنها)؛ فهذا الحديث يحتوي قاعدة من قواعد الإسلام وأصلاً عظيمًا من أصوله، فما خالف أمرنا مردود وما وافقه مقبول، قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أُصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أنّ حديث: الأعمال بالنيَّات ميزان للأعمال في باطِنها، فكما أنَّ كل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردودٌ على عامله، وكلُّ مَنْ أحدثَ في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس مِنَ الدين في شيء". اهـ

وقال كذلك: "فهذا الحديث يدلُّ بمنطوقه على أنَّ كلَّ عملٍ ليس عليه أمر الشارع، فهو مردود، ويدلُّ بمفهومه على أنَّ كلَّ عمل عليه أمره، فهو غير مردود، والمراد بأمره هاهنا: دينُه وشرعُه، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، فالمعنى إذاً: أنَّ مَنْ كان عملُه خارجاً عن الشرع ليس متقيداً بالشرع، فهو مردود". اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْدُودٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَنْ اخْتَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ".

وقَالَ النَّوَوِيُّ (في شرحه لصحيح مسلم): "هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي إبْطَالِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِشَاعَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ كَذَلِكَ". اهـ.

وقبل السنة الكتاب وكله يهدي لما أسلفنا، قال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 31-32].

ثالثًا: نماذج من مواقف الصحابة رضوان الله عليهم تُبيّن محبتهم له:

وأولها العملي: فهي مواقف عملية لذلكم الجيل الفريد أثبتوا بها أن الإيمان بالنبيّ ومحبته أصل عظيم في قلوبهم عبّروا عنه بألسنتهم ودلّلوا عليه بجوارحهم:

- فهذا أبو أيوب الأنصاري: رضي الله عنه لما نَزَلَ عليه النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- بعد الهجرة، فَنَزَلَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- في السُّفْلِ، وَأَبُو أَيُّوبَ في العلْوِ، قالَ: فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً، فَقالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا في جَانِبٍ، ثُمَّ قالَ للنبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- –أي: كلّمه في أن يصعد إلى العلو-، فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-: السُّفْلُ أَرْفَقُ، فَقالَ: لا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- في العُلُوِّ، وَأَبُو أَيُّوبَ في السُّفْلِ، فَكانَ يَصْنَعُ للنبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- طَعَامًا فَإِذَا جِيءَ به إلَيْهِ سَأَلَ عن مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصَنَعَ له طَعَامًا فيه ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إلَيْهِ سَأَلَ عن مَوْضِعِ أَصَابِعِ النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، فقِيلَ له: لَمْ يَأْكُلْ، فَفَزِعَ وَصَعِدَ إلَيْهِ، فَقالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-: لا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ، قالَ: فإنِّي أَكْرَهُ ما تَكْرَهُ، أَوْ ما كَرِهْتَ. قالَ: وَكانَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- يُؤْتَى –يعني: يُوحَى إليه-. (مسلم 2053) وفعل أبي أيوب تضمَّن محبة وتوقيرًا واتباعًا وايثارًا.

- بل حتى في مباحاتهم مما هو جِبِلّيّ كالمطعوم والمشروب تشكَّلت طبائعهم بطبعه صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ محبةً له؛ فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما سمع من النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقول: "نعم الإدام الخل، قال جابر: أَخَذَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- بيَدِي ذاتَ يَومٍ إلى مَنْزِلِهِ، فأخْرَجَ إلَيْهِ فِلَقًا مِن خُبْزٍ، فَقالَ: ما مِن أُدُمٍ؟ فَقالوا: لا إلّا شيءٌ مِن خَلٍّ، قالَ: فإنَّ الخَلَّ نِعْمَ الأُدُمُ. قالَ جابِرٌ: فَما زِلْتُ أُحِبُّ الخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُها مِن نَبِيِّ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-. وقالَ طَلْحَةُ: ما زِلْتُ أُحِبُّ الخَلَّ مُنْذُ سَمِعْتُها مِن جابِرٍ. (رواه مسلم 2052)، ومنه الكثير في كتب السنة فليراجع تفضلاً.

- ونماذج قولية: أما عن أقوالهم المعبِّرة عن مكنون صدورهم فحَدِّث ولا حرج، يعجز المرء أمامها كأنهم ليسوا من بني آدم مع أنهم قبل إسلامهم لم يكونوا على شيء بل كانوا ضُلَّالاً فهداهم الله بصدقهم.

- فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول للعباس: "يا عباسُ واللهِ لإسلامُك يومَ أسلمتَ أحبَّ إليَّ من إسلامِ أبي لو أسلمَ، وما بي إلا أني قد عرفتُ أنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ من إسلامِ الخطاب" (جزء من حديث في المسند 2392، من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في قصة إسلام أبي سفيان يوم فتح مكة).

- وهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: " وما كانَ أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ولا أجَلَّ في عَيْنِي منه، وما كُنْتُ أُطِيقُ أنْ أمْلأَ عَيْنَيَّ منه إجْلالًا له، ولو سُئِلْتُ أنْ أصِفَهُ ما أطَقْتُ؛ لأَنِّي لَمْ أكُنْ أمْلأُ عَيْنَيَّ منه" (رواه مسلم: 121).

 - وسئل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ؟، قال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ" (الشفا: 2/ 568)

 - وسأل أبو سفيان بن حرب -وهو على الشرك حينذاك- زيد بن الدثنة رضي الله عنه حينما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقلتوه -وكان قد أُسِرَ يوم الرجيع- أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟، قال: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي". فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحُبّ أصحاب محمد محمدًا" (البداية لابن كثير 4/ 65، وأخرجه البيهقي في الدلائل 3/ 326، ولكن في أمر خُبَيْب).

وما أجمل ما قاله قيس بن صرمة الأنصاري:

نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ

 

جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا

بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ جُلِّ مَالِنَا

 

وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتَّأَسِيَّا

وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ مِثْلُهُ

 

وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَصْبَحَ هَادِيَا

 (روضة المحبين لابن القيم رحمه الله: ص277).

والحمد لله أولاً وآخرًا.