دراسات شرعية: أحكام الهلال واختلاف المطالع.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين، وبعد: هذ بعض المسائل حول أحكام الهلال واختلاف المطالع.

المسألة الأولى:التاريخ الهجري تقويم المسلمين:

جعل الله تعالى للمسلمين تاريخهم الخاص، يؤرخون به لعباداتهم ومعاملاتهم كالحج والصيام والزكاة والأعياد وعدة المرأة والإيلاء والرضاعة وغير ذلك. قال الله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج) (البقرة: ١٨٩) فالسنة المعتبرة شرعا، هى السنة القمرية قال الله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) (التوبة ٣٦).

قال البغوى: والمراد منه الشهور الهلالية،وهي الشهور التى يعتد بها المسلمون فى صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم (تفسير البغوى٤/٤٤).

 وفى الحديث عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله قد جعل الأهلة مواقيت للناس …(مستدرك الحاكم ح ١٥٣٩ وصححه، وصححه الالبانى فى صحيح الجامع ح ٣٠٣٩ بعد أن كان ضعفه فى ضعيف الجامع، وقال فى الهامش: فلينقل إلى الصحيح لهذا الشاهد القوى).

المسألة الثانية: بماذا يجب صوم رمضان؟

بثبوت رؤية الهلال، كما بحديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم:صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمّى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين (متفق عليه). وفى رواية: فإن غُبّى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما ثم أفطروا (البخارى ومسلم والنسائى والترمذى وابن ماجه ومسند أحمد).

المسألة الثالثة: هل الحساب الفلكى يكفى لثبوت الشهر؟

الأصل هو رؤية الهلال وهذا مجمع عليه فى القرون الثلاثة الاولى، ولم يُخالف الإجماع إلا بعد المائة الثالثة فى جواز العمل بالحساب، يقول ابن تيمية: فإنا نعلم بالاضطرار من الاسلام أن العمل فى رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الايلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يُرى أو لايُرى لايجوز ……. وقد اجمع المسلمون عليه، ولايعرف فيه خلاف قديم أصلا ولاخلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غُمّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل فى حق نفسه بالحساب ….. وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك فى الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم (انظر مجموع الفتاوى ٢٥ /١٣٣).

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الأخذ بالحساب (الفلكى) بشروط منها إذا غُمّ الهلال، منهم ابن سريج والقاضى أبو الطيب والقفال،وقيل لايعمل غيره بقوله وحسابه،بل هو يعمل لنفسه فقط،قال المتولى: لايعمل غير الحاسب بقوله، وهل يلزمه هو الصوم بمعرفة نفسه الحساب، فيه وجهان أصحهما: لايلزمه (انظر المسألة فى المجموع للنووى ٦/ ٢٧٩-٢٨٠).

المسألة الرابعة:هل رؤية الهلال فى بلد ملزمة لسائر البلاد؟

وهذه تسمى باختلاف المطالع، وفيها ثلاثة اقوال:

القول الاول: وهو قول الجمهور: أنه لاعبرة باختلاف المطالع (انظر المجموع ٦ / ٢٧٤) ومن أدلتهم حديث النبى صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته... (متفق عليه) وهو خطاب لكل المسلمين.

 القول الثانى: أن لكل بلد رؤيته، وقد ذكر ابن المنذر ذلك عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهوية (انظر المجموع ٦ / ٢٧٤) ودليلهم حديث كريب قال: بعثتنى أم الفضل رضى الله عنها إلى معاوية رضى الله عنه بالشام ….. واستهل على رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة فى آخر الشهر فسألنى ابن عباس رضى الله عنهما …. فقال رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة: فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية رضى الله عنه. فقال: لكنا رأيناه السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولا تكتفى برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخرجه مسلم وأبو داوود والترمذى والنسائى وأحمد).

وأجيب عن هذا الحديث: أن هذا فهم ابن عباس رضى الله عنهما، والعبرة بقول النبى صلى الله عليه وسلم،وأن هذه مسألة أخرى وهى:العلم برؤية الهلال فى أثناء الشهر وليس فى بدايته،هل يلزم قضاء اليوم أم لا وهل يتم معهم، وهذه مسألة واسعة (انظرها في مجموع الفتاوى ٢٥ / ١٠٣ - ١١٣).

يقول الألباني -بعد أن رجح القول الأول بصيام كل المسلمين إذا ثبت الهلال في أحدها-:وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك،فإنى أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته ولا ينقسم على نفسه،فيصوم بعضهم معها وبعضهم مع غيرها ممن تقدمت في صيامها أو تأخرت، لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف (انظر تمام المنة للألبانى ص٣٩٧).

القول الثالث: يجب الصيام على البلاد التى لاتختلف مطالعها. وهذا القول قال به بعض أهل العلم واختاره ابن تيمية (انظر مجموع الفتاوى ٢٥ /١٠٣-١١٣، والمجموع ٦/ ٢٧٣). قلت: ولعل القول الثالث هو الأقرب الآن لتباعد البلاد والمسافات ، فقد يكون النهار فى بلد والليل فى آخر .ومسألة الخلاف بين المسلمين نراها دائما في هلال رمضان وشوال بينما لا نراها في هلال ذي الحجة وتحديد يوم عرفات،فلما لا نحذو ذلك في سائر الشهور؟!

 المسألة الخامسة: هل تكفى رؤية شاهد واحد لثبوت هلال رمضان؟

اختلف العلماء فى ذلك على قولين بسبب اختلافهم فى كون هذه الرؤية من باب الأخبار، فيكفي فيها قبول خبر الواحد، أو من باب الشهادة فيشترط فيها شهادة اثنين. فذهب الشافعية والحنابلة وأبو حنيفة في رواية عنه إلى أنه تكفي شهادة واحد لثبوت رؤية هلال رمضان وأن شهادة الاثنين احتراز في الأموال والأبضاع وغيرهما .وأدلة هذا الفريق حديث ابن عمر رضى الله عنهما:تراءى الناس الهلال فرأيته فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصام وأمر الناس بصيامه (سنن ابي داوود وغيره)

وأجابوا عن حديث النبى صلى الله عليه وسلم:…….. وإن شهد شاهدان مسلمان ذوا عدل فصوموا وأفطروا (مسند أحمد وغيره، وهو فى صحيح الجامع ح ٣٨١١، وقال الشيخ الأرناؤوط: صحيح لغيره).

 وأن الصيام خرج من عموم شهادة الاثنين بحديث ابن عمر رضى الله عنهما، وبقى هلال شوال كما بالحديث من اشتراط شهادة اثنين ذوى عدل وإلى ذلك ذهب الجمهور.

 قال النووى: لايثبت هلال شوال ولاسائر الشهور غير رمضان إلا بشهادة رجلين حرين عدلين لحديث لحارث (وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا)وقياسا على باقى الشهادات التى ليست مالا ولا المقصود منها المال ويطلع عليها الرجال غالبا مع أنه ليس فيه احتياط للعبادة بخلاف هلال رمضان، هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا أبا ثور …..وحكاه ابن المنذر عن أبى ثور وطائفة من أهل الحديث أنه يقبل فى هلال شوال شهادة عدل واحد (انظر المجموع للنووى ٦ / ٢٨٠- ٢٨١).

القول الثانى: اشتراط شهادة شاهدي عدل وإلى ذلك ذهب الحنفية والمالكية وهو قول لدى الشافعية ورواية عن أحمد، ودليلهم حديث النبى صلى الله عليه وسلم …. فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا (سبق) (انظر الموسوعة الفقهية ١٩/ ١٦-١٧).

 المسألة السادسة: إن لم يُر الهلال فى اليوم التاسع والعشرين من شعبان فإنه يكمل العدة ثلاثين يوما:

ففى حديث عائشة رضى الله عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان مالايتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام (رواه أبو داوود وغيره وقال الألبانى صحيح). أى يتكلف فى عد أيام شعبان للمحافظة على صوم رمضان، وقد اهتم الصحابة رضى الله عنهم بتراءى الهلال وكذلك الناس من بعدهم.

المسألة السابعة: إذا رأى شخص الهلال بمفرده، ولم يستطع إعلان ولاة الأمر، أو لم يؤخذ بكلامه فماذا يفعل؟

 ١- قيل يصوم ويفطر بمفرده حتى لايخالف الناس لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (البقرة١٨٥) وهذا قول الشافعى ورواية عن أحمد ومذهب ابن حزم.

٢- وقيل بل يصوم برؤيته ولايفطر إلا مع الناس، وهذا مذهب أبى حنيفة ومالك والمشهور عن أحمد.

٣- وقيل لايعمل برؤيته بمفرده وإنما يصوم ويفطر مع الناس وهو رواية عن أحمد واختاره ابن تيمية. لحديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون (الترمذى وغيره، صحيح الجامع ح ٤٢٢٤) قال الترمذى عقب الحديث: فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس. واختار هذا القول ابن تيمية ثم قال: لكن من كان فى مكان ليس فيه غيره إذا رآه صامه فإنه ليس هناك غيره (مجموع الفتاوى ٢٥/ ١١٧- ١١٨).

والحمد لله رب العالمين.