أهل الخمر في رمضان

✍️ محمد عبد العزيز

إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا ... وبعد:

فقد حرم الله الخمر، وشدد في تحريمها حتى عدت من الكبائر إجماعًا، وجعل فيها حدًّا من الحدود الزاجرة، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرًا، فعن عبد الله بن عمر _ رضي الله عنه _ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» [أخرجه أبو داود (3674)، ابن ماجه (3380)]

وعن أنس بن مالك _ رضي الله عنه _ قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، والمعصورة له، وحاملها، والمحمولة له، وبائعها، والمبيوعة له، وساقيها، والمستقاة له، حتى عد عشرة، من هذا الضرب. » [أخرجه الترمذي (1341)، وابن ماجه (3381)].

ثم إن الله توعد شاربيها في الآخرة بعذاب أليم، فعن عبد الله بن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر لم تقبل صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال.

 قيل: يا أبا عبد الرحمن: وما نهر الخبال؟

قال: نهر من صديد أهل النار» [أخرجه الترمذي (1862)، وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1517)]

لماذا شدد الله في حكم الخمر؟

وما كان هذا التشديد في تحريم الخمر إلا لإذهابها للعقول وإفسادها لها، والعقول هي مناط التكليفات الشرعية، فلا تكليف لِذَاهِب العقل إجماعًا.

تفاوت أهل الخمر في الإثم:

ولا شك أن أهل الخمر في شربها آثمون ملعونون، وكذا من أعان على شربها من هؤلاء الذين عدهم النبي صلى الله عليه وسلم.

 لكن لا شك ايضًا أن بعضهم أشد إثمًا من بعض، فليس من أسرَّ بشربها في الإثم كمن جاهر بذلك، لحديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه». [أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990)]

وليس من جاهر بشربها في الإثم كمن دعا غيره لمعاقرتها، فعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، فعليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» [أخرجه مسلم (2674)]

وليس من دعا لمعاقرتها، كمن لَبَّسَ على الناس في أمر دينهم فسماها بغير اسمها ترويجًا لها، كمن يسميها مشروبات روحية مثلاً، فعن مالك بن أبي مريم قال: «دخل علينا عبد الرحمن بن غنم، فتذاكرنا الطلاء، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها» [أخرجه أبو داود (3688)، وابن ماجه (4020)]

وليس من سماها بغير اسمها كمن ادَّعى أن الشرع أحلَّها، فعن أبي مالك الأشعري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب عَلَمٍ، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ الله، وَيَضَعُ العَلَمَ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» [أخرجه البخاري (5590)]

 وليس من ادَّعى حِلَّها كمن روَّج أن متجنبها إلى ما شرع الله آثم متوعد بالنار.

 وليس إثم هذا الأخير كإثم من فعل كل ما سبق في الأيام والأوقات والأماكن الفاضلة:

 فأما الأيام الفاضلة: فإن السيئة فيها تعظم يدل لذلك قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].

وكذا الأماكن الفاضلة: تعظم فيه السيئة، يدل لذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]

 وأمثال هؤلاء كثير، فهذا شاعر الخمريات الماجن يقول:

دع المساجد للعبّاد تسكنــــــــــها ... واذهب بنا إلى حانة الخمّار يسقينا

ما قال ربك ويل للأولى سكروا ... بل قـــال ربـــك ويــــل للمصلينا

فزهد في المساجد، ورغب في شَرِبَ الخمر، ودعا لمعاقرتها، وادعى أنها على الإباحة، ونفَّر من أهل الصلاة والعبادة، ولبَّس لذلك بإخراج آية من آيات القرآن عن سياقها، واقتطعها فلم يتم معانها حتى عدّا بحق داعٍ على أبواب جهنم.

خمر من نوع خاص:

والخمر التي أقصدها هنا خمر من نوع خاص اجتمع فيها: المجاهرة، والدعوة، والتآزر، بل وأحيانًا التلبيس على الناس، خمر قد أحيطت بالموسيقى التصويرية، والحبكة الفنية، والبارعين من المشخصين، والفاتنات من النساء قد ازدانوا بالمساحيق، والعشرات من الكاتبين، ومئات من المجتهدين في إخراج عمل يذهب بالعقول، ويأتي بالنشوة، ويبني القناعات، ويهدم الأصول، ويغتال العفة، ويفتك بالفضيلة في هذا الشهر الفضيل قد اجتمع عليه وتعاقب عليه طائفة كبيرة من الناس فهي بحق «فتنةٌ عمياءُ صماءُ، عليها دعاةٌ على أبواب النار» [أبو داود (4246)، وأحمد (23282)، والنسائي في الكبرى (7978)].

 إن هذه الخمر وأهلها ليست بأقل فتكًا بالعقول والأديان من هذا الداعي الذي يقف وحيدًا بغير أعوان يؤازرونه ويروجون له، بل هي أشد فتكًا وأسرع وصولاً للبيوت التي تدخلها بلا استئذان، والعقول التي تضللها بكثير من زخارف القول وخداع البصر وإمالة القلب للشهوات.

 فإذا كان ذلك في شهر تفتح فيها ثمانية أبواب الجنة، فلا يغلق منها باب، وتغلق فيه سبعة أبواب النار فلا يفتح منها باب، وتصفد فيه الشياطين، ومردة الجن فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون له لحديث أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين» [أخرجه البخاري (1898)، ومسلم (1079)].

إذا كان ذلك في شهر يفرغ فيه إمام الهدى وخاتم الأنبياء والمرسلين لتلاوة كتاب ربه وإحياء ليله فهذا ابن عباس _ رضي الله عنه _ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» [أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308)].

إذا كان ذلك في شهر صيامه إيمانًا واحتسابًا مغفرة، وقيامه إيمانًا واحتسابًا مغفرة، وقيام ليلة القدر فيه مغفرة.

 وإذا كان هذا في شهر في كل ليلة من لياليه لله عتقاء من النار فالأمر أخطر والخطب أعظم.

أما آن لأهل الخمر فينا أن يكونوا كصاحب الخمريات الأول فإنه لما قال ما قال من الدعوة إلى خمره ختم حياته بتوبة قال فيها:

يا رب قد عظمت ذنوبي كثرة ... ولقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كـان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم

أدعوك رب كما أمرت تضرعًا فإذا ... رددت يدي فمن ذا يرحم

مالي إليـــــــــك وسيلة إلا الرجـا ... وعظيم عفوك ثم إني مسلم

[الأبيات لأبي نواس في ديوانه (ص 220)]

أما آن لهم أن يتوبوا، ويستغفروا ربهم، ويذروا الناس من شرهم، ويختموا دنياهم بعمل يحبه الله ويرضاه.

أما آن لهذا المتلقي أن يعي ما يريد الله منه فيفعله، وما يريد هؤلاء منه فيجتنبه، فإن الله يريد أن يتوب عليه، ويريد هؤلاء به سوءًا، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].

 أما آن لهذا العبد المسكين أن يفيق من هذه النشوة المؤقتة بخمر هذه الطائفة، ويستمع النداء:

«يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر».

وليعلم الصائم أنه ليس له في صيامه من أجر إن هو قضاه في قول الزور أو العمل به أو الجهل.

 فاحذر أيها الصائم أن يلفتك أهل الباطل عما أنت فيه من الطاعة إلى ما هم فيه من المعصية، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» [أخرجه البخاري (6057)]

اللهم ارددنا إليك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

هذا ما يسره الله في هذا المقام، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى